إذنا وقبل اتخاذ أيّ قرار استراتيجيّ، يتعلّق بمستقبلنا ومستقبل الجيل القادم، ولدى إجرائنا أيّ محاكمة عقلانيّة، لتشكيل الخطوط لعريضة لخطّة مقبلة، لا بدّ لنا من إدراك حاجتنا الماسّة إلى الاهتمام بالمعطيات الأساسيّة لواقعنا،
مع رصد حسنات المراحل السابقة وسيّئاتها؛ للوصول إلى تحديد الأهداف السامية المرجوّة، مدركين بأنّ مؤثرات الزمن الماضي في التخطيط، ليست هي بالضبط؛ وأنّ الأهمّ من كلّ ذلك، هو تركيزنا على بناء الإنسان الذي نرجو، معتمدين القيم الأخلاقية، وحبَّ الآخر كما هو، والاستعداد للتضحية في سبيل وطن، أعطانا، وسيعطينا كلّ شيء.
الزمان
لقد عرّف أرسطو الزمن بأنّه «الحركة ،» وعدّ بعض الفلاسفة الزمن ذلك البعدَ الرابع، الذي يحدّد الموقع الحقيقيّ للمادّة أو الفكرة أو الحدث؛ كما عرّفت موسوعة كولومبيا الزمن بأنّه: «ترتيب متعاقب للأحداث، أو الفاصل بين حدثين في تلك السلسلة المتعاقبة .
إنّ ما يعنينا هنا، هو المفهوم العلميّ للزمن، الذي يقاس بالثواني والدقائق والساعات، وليس المفهوم الفلسفيّ النفسيّ، الذي اختصره اينشتاين بقوله: «الزمن مجرّد وهم، وكلّ شيء يحدث بالتزامن » .
لقد كان لتراكم الزمن عبر العصور المتتابعة، ذلك التأثير الرئيسيّ في المادّة والفكر والتطوّر الإنسانيّ، ونتج عن ذلك التراكم تجميع خبرات الأجيال السابقة، وانعكاس الأحداث المتتالية على تنامي التقدّم الحضاريّ لكلّ مجتمع، حسب الظروف التاريخيّة، التي عاشها في زمن ما وموقع ما.
المكان
ليست أهمّيّة المكان بجغرافيّته، وما تحتويه من كنوز وخيرات فقط؛ بل الأهمّيّة الأخرى هي للاستراتيجيا الخاصّة به، التي قد تكون أهمّ وأكثر تأثيراً على النواحي الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة لخطّة المستقبل.
لقد حوّلت قناة باناما، التي يطلق عليها
الاميركيّون اسم «قلب الكون »، ذلك الموقع الجغرافيّ العاديّ منذ العام ( 1914 م )، إلى نقطة استراتيجيّة أولى في القارّة لاميركيّة؛ فقد ربطت المحيط الأطلسيّ بالهادئ، واختصرت مسافة الرحلة البحريّة ( 8370 ) كم بين نيويورك وسان فرانسيسكو، وقناة السويس، التي ألغت أهمّيّة رأس الرجاء الصالح، منذ اكتشافه العام ( 1844 م )، حتّى بدءِ استخدامها العام ) 1895 م(، وأصبحت نقطة عبور آسيا إلى أوروبا عبر البحار، وألغت طريق القوافل، الذي كان يسمّى «طريق الحرير »، وكان لها أيضاً التأثير الكبير في انهيار الامبراطوريّة العثمانيّة فيما بعد.
وهذه سوريّتنا، عقدة الربط الأهمّ بين قارّات العالم، توالت عليها الحضارات السابقة ّكافة منذ فجر التاريخ، وحاولت النيل منها؛ مرّ عبرها طريق الحرير، ومرّت بها خطوط النفط منذ بدايات القرن العشرين؛ اليوم، وبعد أن تمّ اكتشاف ثروة الغاز الباطنيّة، وبكمّيّات مهمّة، كان هذا العدوان الشرس من قبل الغرب للاستحواذ على خيراتها وموقعها.
الإنسان
إنْ كان للزمان والمكان التأثير المهمّ لبرمجة خطط المستقبل؛ فإنّ الهدف الأسمى لكلّ الخطط، هو تطوّر الإنسان نفسه، وتَقَدُّمُه؛ ومن خلاله، تطوّرُ المجتمع بكامله وتقدّمه. وإنّ ارتكاز خطط التطوير الجديدة على الوضع الراهن، لا بدّ أن يستهدي بالتجارب السابقة المتتالية، التي شكّلت في مجموعها مقوّمات الإنسان، تهدف الخطة المستقبليّة إلى ترقيه على سلم الحضارة.
وكما تختلف استراتيجيّات الأمكنة على وجه الكرة الأرضيّة؛ فإنّ اختلافات مهمّة لمقوّمات التخطيط بين المجتمعات، ناتجة عن مدى تفاعل الإنسان مع الجغرافيا والبيئة والمناخ .
لقد اختلفت المجتمعات بين دول الشمال الباردة ودول الجنوب ذات المناخ الحارّ، وكذلك بين الشرق والغرب؛ فهذا إنسان المناطق الحارّة، يميل إلى الكسل، وإنسان المناطق المعتدلة والباردة، يميل إلى الحركة لتأمين الدفء؛ إضافة إلى تميّز ساكني نقاط تلاقي الحضارات بالانفتاح والنشاط والتطوّر؛ أمّا سكان الصحارى، فهم الذين يعانون الانعزال عن العالم، وطباعهم مشابهة للمناخ الذي يعيشون فيه، وثقافتهم متجمّدة، كما عناصر الحياة المتعدّدة في الصحراء.
إنّ إنساننا السوريّ السابق، ومنذ بدء الخليقة، هو من بنى الحضارات وصدّرها إلى العالم، وهو اليوم من سيتابع مسيرة التقدّم والحضارة اجتماعيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً.